مداخلتي احتفالا بصدور كتاب..
كتاب العبر في براديغم المدرسة التونسية
الصادر عن دار نشر الادب الوجيز
بدار الثقافة ابن رشيق
ا==== قراءة ===
ا=====
قبل البدء
ا=======
دعونا اليوم نحلّق على بساط البراديغم، ذاك النموذج السحري الذي عبَر بنا من تفاحة نيوتن إلى زمكان أينشتاين، ورافق Thomas Kuhn وهو يعيد ترتيب المعنى في خرائط الفكر والعالَم.
نلتقي هذا الصباح في دار الثقافة ابن رشيق، في لقاءٍ إعلامي يتجاوز التقليد، ليكون لحظة فكر، ونبضة وعي، نحتفي فيها بإصدار جديد من منشورات دار الأدب الوجيز، كتابٌ ينهض من عمق اللحظة الراهنة ليقدّم مشروعًا معرفيًا طموحًا:
“العِبَر في باراديغم مدرسة الجمهورية وموازينها وآياتها: مسؤولة – ذكيّة – ذات سيادة”
للكاتب الأستاذ عامر الجريدي.
هذا الكتاب ليس مجرّد مؤلَّف، إنّما هو مقترَح تفكير، ودعوة لقراءة جديدة لمسار الجمهورية، من بوابة التعليم تحديدًا، ذاك الحقل الذي يتّسع للمستقبل بقدر ما يحتفظ بذاكرة الأمة.
في سطوره، يتأمّل الكاتب واقع المنظومة التربويّة في تونس، ويقترح آفاقًا لتغييرها من الداخل: تغيير ينهل من المسؤولية، ويعتمد الذكاء المؤسسي، ويؤمن بسيادة وطنيّة في الرؤية والممارسة.
الجمهورية، في هذا التصوّر، ليست مجرّد نظام حكم، بل مدرسة قيم، ومختبر لإعادة صياغة الإنسان التونسيّ بما يليق بالقرن الحادي والعشرين.
هي دعوة لتأسيس باراديغم جديد في التربية والتعليم، يعيد المعنى إلى المدرسة، والمكانة إلى المعلّم، والدور الحقيقي إلى المعرفة.
سنرافق اليوم الأستاذ الجريدي في هذا السّفْر المعرفي، نقرأ ما وراء العناوين، وننصت إلى الطبقات العميقة التي تشكّل هذا العمل، آملين أن يحرّك الكتاب، عقولنا وإرادتنا الجماعيّة في التفكير، وفي التغيير.
وإنّه لمن الإنصاف، في هذا المقام، أن نُحيّي دار الأدب الوجيز، التي ما انفكّت تثبت أنّ “الوجيز” لا يعني القليل، بل يعني المكثّف، العميق، المحكوم بميزان المعنى.
دارٌ تُراهن على الفكر الأصيل، وتمنح المنابر للأصوات التي تؤمن أنّ الكتاب ليس سلعة، وإنّما مشروع حياة، ونبض أمّة.
ففي زمن الضجيج والسطحيّات، تبقى الكلمة الحرّة — حين تجد دارًا تؤمن بها، وتحتضنها — قادرة على أن تشقّ طريقها في العتمة، وتزرع أثرها في الوعي، بصدق عميق.
ا=======
المداخلة
ا=====
عنوان القراءة: نمذجة جديدة للسياسات التعليمية في تونس: قراءة تحليلية في كتاب عامر الجريدي
مقدمة:
يأتي كتاب “العبر في باراديغم مدرسة الجمهورية وآياتها وموازينها” للأستاذ عامر الجريدي في سياق وطني وعربي يتّسم بأزمة عميقة في المنظومات التربوية، ويطرح نفسه كأطروحة مجتمعية حرة تتجاوز الطرح الأكاديمي النمطي، متجهة نحو بناء نموذج بديل، أو ما يسميه الكاتب “باراديغم جديد” للمدرسة التونسية.
من بين المحاور المفصليّة التي يعالجها الكتاب بعمق وجرأة، تبرز “النمذجة الجديدة للسياسات التعليمية” كرافعة مفاهيميّة ومنهجيّة لعملية إصلاح تربوي شامل، يقوم على تفكيك النموذج النيوليبرالي القديم وبناء منظومة تعليمية جديدة ذات سيادة ومواطنة وعدالة معرفية.
⸻
أولًا: مفهوم النمذجة حسب الكتاب
يشرح المؤلف في قسم مفاتيح الكلمات النمذجة بأنها:(ص13-14)
• عملية بناء هندسي تجريدي لمنظومة التعليم، تتضمن العناصر الأدبية والتنظيمية والمؤسساتية والمادية،
• تقوم على المفهمة (conceptualisation)، أي تجريد الأفكار وتحويلها إلى سياسات عملية قابلة للتنفيذ،
• ترتبط بـ”التمشي الخوارزمي” الذي يقترح الكاتب اتباعه، أي منطق الخطوات المترابطة عقلانيًا ومنهجيًا.
تُعتبر النمذجة بالنسبة له أداة للانتقال من حالة إلى حالة: من تعليم تقليدي استهلاكي خاضع للمركز، إلى تعليم إنتاجي، نقدي، متجذّر في حاجات المواطن، وفي واقع البلد، وفي تحدّيات العصر.
⸻
ثانيًا: منطلقات النمذجة الجديدة للسياسات التعليميّة
يرتكز التصور الجديد الذي يقترحه الجريدي على عدد من المفاهيم الجوهريّة:
التربية كعملية تحصين وتكيّف وتمكين
• التربية ليست فقط نقل معارف، بل بناء مواطن يمتلك مناعة فكرية وقدرة على التأقلم.
• النموذج يقترح تربية ثلاثيّة الوظيفة: تربية + تعليم + تأهيل = حصانة مجتمعيّة.
السيادة التربويّة (ص. 13)
• السياسة التعليمية يجب أن تكون نابعة من خصوصيات المجتمع التونسي، لا نسخة من الخارج.
• “السيادة” هنا تعني: حرمة، انتماء، وحقّ في صياغة السياسات داخليًا.
الذكاء التربوي السياسي (ص.13)
• يُقصد به القدرة على الربط بين الإصلاح التربوي والمشروع السياسي الوطني.
• التعليم ليس شأناً إدارياً بل هو قرار وطني استراتيجي.
⸻
ثالثًا: خصائص النمذجة المقترحة في الكتاب
الكتاب يقدم تصورًا متكاملًا لخصائص السياسات التعليميّة الجديدة:
مقاربات متعددة المناهج (Multi-method) (ص. 14)
• يرفض الكاتب الحلول الأحادية ويدعو إلى دمج المنهج الكمّي بالنوعي، والميداني بالنظري.
فكر تركيبي (Pensée complexe) (ص. 17)
• يستلهم من إدغار موران نظريته في الفكر المركّب، معتبرًا أن إصلاح التعليم لا يمكن أن يكون إلا متعدد الأبعاد: سياسي، اجتماعي، ثقافي، اقتصادي، بيئي.
التكامل بين المعرفة والقيم والمهارات (ص. 12)
• المدرسة وفق هذا النموذج ليست فقط لنقل المعرفة، بل لبناء أخلاق، ومهارات، وانتماء وطني.
الاستناد إلى معادلات تربويّة (ص. 7):
“المدرسة = أخلاق + معارف + مهارات”
“التربية + تعليم + تأهيل = حصانة”
هذه المعادلات تُترجم الفكر النظريّ إلى نماذج قابلة للتطبيق
ا=========
رابعًا: أبعاد السياسة التعليمية الجديدة وفق الكتاب
ا=========
البُعد البيئي الرقمي
• يدعو الكاتب إلى نمذجة تأخذ بعين الاعتبار التحولات المناخية، وتأثير الذكاء الاصطناعي، وتحولات الاقتصاد الرقمي (ص. 12).
البُعد المجتمعي-القيمي
• يؤكد على ضرورة أن تكون المدرسة منفتحة على المجتمع، مرتبطة بهوية البلاد، داعمة للعدالة الاجتماعية.
البُعد الإجرائي التطبيقي
• يقترح الكاتب أن يتم تصميم السياسات عبر:
• مجمعات تفكير،
• شراكات بين الدولة والمجتمع المدني،
• تجريب ميداني قبل التعميم.
⸻
خامسًا: رؤية مستقبلية من داخل الكتاب
الكتاب لا يكتفي بتفكيك الأزمة، بل يقدّم رؤى عملية مستقبلية، منها:
أ. إعادة صياغة المدرسة بوصفها “مشروعًا حضاريًا”، لا مجرد مؤسسة خدماتية.
ب. ربط الإصلاح التربوي بالإرادة السياسية، كما عبّر عنها رئيس الجمهورية قيس سعيد، وتفعيل الشراكة بين الدولة والمجتمع التربوي (ص. 9و21).
ج. ضرورة التدرج في الإصلاح:
• وضع سياسات واضحة (سنة–3 سنوات)
• تنفيذ تدريجي (10–20 سنة)
• النتائج تُقاس على المدى البعيد، مثلما لا تُثمر الأشجار في موسم واحد (ص. 221).
خاتمة:
النمذجة الجديدة للسياسات التعليميّة كما يقترحها عامر الجريديّ ليست فقط تصحيحاً للمسار، بل تأسيس لباراديغم جديد يجعل من المدرسة التونسيّة فاعلًا مركزيًا في المشروع الوطني. وهي دعوة لأن نعيد للمعلم دوره الرياديّ، وللمعرفة قيمتها التحرّرية، وللتعليم معناه الإنساني.
الكتاب يشكّل خطوة نوعية، ومرجعًا لا بد من العودة إليه عند أي تفكير جديّ في مستقبل التربيّة والتعليم في تونس والعالم العربيّ.
Discussion about this post