سِفْر التأملات الخفيّة
(نصوص في الجمال الغائب، والكينونة التي لا تُلمس)
مقطع ( الفتى الذي مات حتفَ الرحيق)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان انحناءة خفيفة في الهواء،
شقّة في الصمت تشي بأن أحدهم عبر دون أن يُرى.
ولد من شغفٍ غفل عن اسمه،
ومنذ اللحظة الأولى، كان يبحث في الورد عن شيء لا علاقة له بالورد.
كان يقترب دون رغبة، يشمّ دون حواس،
كأن الرحيق له معنى لا يُدرَك إلا إذا انعدم.
كان يرى في الوردة وعدًا بالتجرّد،
وفي العطر فخًّا خفيًا للحواس،
وفي اللون… قفصًا شفيفًا للدهشة.
لم تكن له خطوات، بل آثار تشبه التردّد،
كان إذا مرّ، اهتزّت الورود دون ريح،
وارتبكت الطيور في شهقتها.
قال قلبه:
لا تطلب العطر، اطلب الصمت الذي يأتي بعده،
لا تركض خلف الزهرة، أَصغِ لما تُخفيه عن عينيك.
ففهم أنه ليس العابر، بل المُنعكِس.
ليس السائل، بل السؤال.
وعندما حلّ به الرحيق كوميضٍ لا يُطاق،
انحلّ فيه، ولم يتبقَّ منه سوى أثرٌ نديّ في اللاشيء.
لم يمت.
بل ذاب في ما لا يُشم، ولا يُؤوَّل، ولا يُنسى.
2
مقطع (الخطوة التي لا تُترك على الرمل)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشيتُ.
لكن الأرض لم تتذكّرني.
الريح لم تأخذ أثري،
والرمل لم يغيّر وجهه.
كانت خطوتي من الداخل،
كأنني أتحرّك في صمت روحي، لا في مسافة.
الخطوة التي لا تُترك على الرمل،
هي التي لا تحتاج إلى وجهة.
لا تقول “هنا كنت”،
تهمس: “كنتُ في ما لا يُرى”.
من يسير هكذا،
لا يقترب من شيء، ولا يبتعد،
يذوب في الطريق حتى يُصبح هو الطريق.
3
مقطع (ظلّ لا يتبع أحدًا)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان هناك ظلّ، لا يتبع جسدًا، ولا ينتظر شمسًا.
يمشي وحده، بلا أصل، بلا وجه.
يشبه وصيةً تُركت في آخر الرؤيا.
ظلّ من لا اسم له، من غاب حتى عن غيابه.
ظلٌّ لا يعكس، لا تتزوجه لغة ولا يتذكره طائر
من سار خلفه، وجد نفسه يختفي تدريجًا.
من تأمله طويلًا، أدرك أن النور ليس هو البداية.
الظلّ لا يسكن الحائط، ولا الأرض.
يسكن احتمالك لأن لا تكون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حيدر الأديب
Discussion about this post