قراءة نقدية:” القصيدة والصلاة في هيكل العشق”
القصيدة: “قبلة العاشقين”
الشاعرة: د. الهام عيسى (سوريا)
الناقدة: جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: :” القصيدة والصلاة في هيكل العشق”
أ- العنوان: “قبلة العاشقين”:
أسندت الشاعرة الهام عيسى عنوانا لقصيدتها “قبلة العاشقين” وقد ورد مركبا بالاضافة والمضاف (قبلة) والمضاف اليه( العاشقين) قد جمع بين معنيين معنى الدين ومعنى العشق.وبالتالي :
– أية قبلة هي قبلة العاشقين؟
– هل العشق عبادة؟
ب- التحليل (القراءة النقدية): :” القصيدة والصلاة في هيكل العشق”
استهلت الشاعرة قصيدتها بتحديد الاطار الزماني وهو الليل فتقول:
“حين ينام جفن الليل”
ان الشاعرة شخّصت الليل حين جعلت له جفنا ينام وهي تقصد سمّار الليل
ولعلها كالعديد من العاشقين يخشون عين الرقيب لذلك هي اختارت الليل و اطمأنت أن لا رقيب يراقبها.
والعديد من الشعراء تغنّى بسكون الليل:
+يقول أحدهم:
ثم يأتي هدوء الليل ليحكي القمر
عن ما تخفيه عيون البشر
عن عيون تنام وأخرى أرهقها السهر
عيون تبكي وعيون تشكي وعيون تخفي
وعيون يعجز عن فهمها كل البشر
+ ويقول شاعر آخر:
سكن الليل والأماني عِذاب// وحنيني الى الحبيب عَذابُ
كلما داعب الكرى جفن عيني// زارني الشوق وأضناني الغياب
+يقول الشابي:
في سكون الليل لمّا// عانق الكون الخشوع
واختفى صوت الأماني// خلف آفاق الهجوع
+أجمل ما قيل في الليل:
– مع المساء..
يحلى السهر والسمر
وقلوب العاشقين تنبض أشواقا ولهيبا وحنينا
– واراك كالنجمة المضيئة في عتمة الليل التي لا يضاهيها أحد بالجمال
– عجبا أيها الليل:يقولون عنك هادئ وفيك تصرخ كل القلوب
– وكأن للذكريات قلبا لا ينبض إلا ليلا.
وفي هذا الاطار من التناص مع ليل العاشق ماذا تقول شاعرتنا؟
تقول الشاعرة إلهام عيسى:
حين ينام جفن الليل
يستنهض النبض خاشعا جليا
يكحل الظل أهداب الشوق
ان هدوء الليل يجعل النبض ينهض في خشوع وتجلٍّ.
والشاعرة ترمز بالنبض الى القلب الذي ينهض خاشعا ويحرك الشوق.
ان الشاعرة باستخدام صيغة الفعل المضارع(ينام / يستنهض/ يكحل..) تعبر عن الاستمرارية والدوام لهكذا أفعال في اطار زماني محدد (الليل).
ان هذه الاستمرارية وهذا الدوام يعكسان حقيقة تجعل الشاعرة تخرج بقصيدتها من النسبية الى المطلق وقد دعمت ذلك بالحديث عن العاشقين وعن النبض والشوق في المطلق باستخدام الأسماء المعرّفة دون اسنادها لضمير المتكلم المفرد .
وفي هذا الاطار تستخدم الشاعرة طباقا(الليل/ النور) ليعكس مقابلة معنوية بين ظلام الليل والحبيب الذي ينير هذا الظلام لتسوقها النسمات حريقا ببريقه
ان نسمات الليل اللطيفة المنعشة تتحول الى حريق يشعل الشوق الى بريق الحبيب الذي يتراءى اليها عن بعد فتقول:
موقد النور من فكره العجب
تسوقني النسمات حريقا ببريقه
عيناك والمسافات وحدها معلقة
تترى من وقعها النغم
ان الشاعرة الحبيبة ترى الحبيب بعيدا بيْد أنها تراه يتصدر المكان والزمان بعينيه ولعلها ركزت على العينين لتكونا قبلتها في هذا الليل المظلم والمكان الرحب.
وتتحرك لديها حاسة السمع لتجعله يوقظها من غفوتها بصوته المبحوح وقد جعلت صوته مبحوحا لأنه كان يخاطبها همسا خوفا من الرقيب من ناحية و مداعبة لها وهي في غفوة لتتحول الى بوح خاشع مشحون بالشجن والهمسات التي ارتجف لها قلبها فتقول:
صوتك المبحوح يخنقني
يوقظني من غفوتي
يمضي في وقتها الوجد
يسجد البوح لانغامه خاشعا
يشدو بلحن موغل الشجن
في لجج الهم دونك ارتجافات
همسات من نفحها قلبي ارتجفا
استخدمت الشاعرة معجمية لغوية كأنها في حضرة صلاة (يسجد/ خاشعا/ الشجن/ همسات/ ارتجفا).
كأني بالشاعرة الحبيبة تراه قبلتها في الصلاة وهي تضفي على حضوره قدسية .
هذه القدسية ستنتشلها من ذاك الشجن والهمّ والارتجاف:
والشجن في أصل معناه حسب النقاد هو” حالة شعورية يستخدمها الشعراء للتعبير عن أحاسيسهم ومشاعرهم الداخلية وغالبا ما يتجلّى في صور شعرية معبرة عن الحزن والأسى مثل صور الليل والغياب والفراق”
وبالتالي تتحول حروفها وكلماتها بلسما لتمنحه الأمن والأمان حين أيقظها من غفوتها بحضوره القدسي.
وها هي تبوح اليه بأحاسيسها المرهفة فتقول:
تغدو حروفي مطايا والكلمات بلسما
سلم اليك تجلى ما بعده سلم
سراج الشمس يمتد من خاصرة السماء
يلبسك نورا يضيء الظلما
لقد تحول ارتجافها وخوفها وشجنها الى سلم وكأني بها تداركت الأمر لتحول صوته المبحوح الذي يخنقها وهو يوقظها الى سلم ما بعده سلم.
وأكثر من ذلك فهو يضيء ظلامها بما في الظلام من خوف ورعب وشجن..
ان هذه الصورة الشعرية التي رسمتها الحبيبة للحبيب من سلم واضاءة ونور جعلته يسري في روحها مثل مسبحة الترتيل الساكنة بين أضلعها .
والمسبحة عادة لذكر الله وحمده وها هي الشاعرة تشبه بها حبيبها لذكر مزاياه التي أضاء ظلامها لتكون في أمن حين أيقظها من غفوتها وحوّلها الى حياة همسا
والهمس محبّذ و ممتع بين الأحبة فتناغم ذلك مع الذكر بالمسبحة الذي لا يكون الا همسا.
بيد ان الشاعرة تجعل المسبحة مسبحة ترتيل لتستمتع بالذكر الصوتي ونشيد المسبحة الذي تردده. فتقول:
ساري الروح مثل مسبحة الترتيل
تخرج من بين أضلعي همسا
تغدو فيك قبلة وللعشاق سجدا
لقد استخدمت الشاعرة مرة أخرى معجمية لغوية دينية(ساري الروح/ مسبحة الترتيل/ قبلة/ سجدا) لإضفاء القدسية على عشقها بذكره ذكرا حسنا والذكر عادة لله ليصبح هذا الذكر قبلة للعاشقين يسجدون لها.
– هل الشاعرة تدعو القارئ الى الصلاة في هيكل العشق؟
– هل الصلاة والعشق لا يتعارضان؟
ان الشاعرة في هذا الاطار تتناص مع عنوان لقصيدة الشاعر التونسي الشابي “صلوات في هيكل الحب” حيث يرى بعض النقاد والدارسين لها “انها قصيدة ذات أبعاد بلاغية عميقة حيث يستخدم الشاعر اللغة بشكل فني ومبتكر للتعبير عن تجربة حبّ فريدة تتجاوز المفاهيم التقليدية. يعتمد الشابي على الانزياح والمجاز و الأسلوب الرومانسي لخلق صور شعرية مؤثرة وابراز قدسية الحب”
وشاعرتنا الهام عيسى استخدمت المعجمية اللغوية الدينية والأسلوب الانزياحي الدلالي القائم على الكناية والاستعارة والتشبيه لإضفاء القدسية على تجربتها في العشق.
ولئن كانت صلاة الشابي في هيكل “الحب” فصلاة شاعرتنا في هيكل “العشق”
والفرق بين الحب والعشق واضح وجليّ حسب النقاد:
تعرّف الباحثة ميسرة عايش الحب بموقع “موضوع” بأنه” ميل قلب الى قلب آخر أو تعلق قلب بقلب آخر ويكون ذلك باجتماع مشاعر قوية داخلية لشخص ما.
ويمكن تعريف العشق بأنه تعلق القلب .وهو أعلى مرتبة من الحبّ ومرحلة متقدمة منه فالحب يمرّ بعدة مراحل وهي: الهوى , ثم الصبوة, ثم الشغف, ثم الوجد, ثم الكلف, لنصل الى العشق والعشق هو عمى الحس عن إدراك عيوب المعشوق هو قوة غريزية تسري من دون تدخل العقل فيعطي شعورا بالانجذاب”*
ومن ناحية ثانية هي لم تبق سجينة التجربة الشخصية حين جعلت حبيبها ساري الروح كمسبحة الترتيل تغدو فيه قبلة بل وكل العاشقين يسجدون لهذه القبلة.
انها بذلك خرجت من الذاتي الى الموضوعي ومن النسبي الى المطلق لتتوق الى عالمية العشق العبادة لتصور العشق كعبادة في هيكل مقدس.
سلم قلم الشاعرة الهام عيسى المسكون بالعشق المقدّس لتجعل العشق عبادة وترتقي به من التجربة الشخصية النسبية الى المطلق.
بتاريخ 23/ 06/ 2025.
المرجع:
* ميسرة عايش آخر تحديث 27 أوت 2022
موقع موضوع الفرق بين العشق والحب.
قراءة نقدية القصيدة بين متعةالتناص ومتعة الإبداع
قراءة نقدية:" القصيدة بين متعة التناص ومتعة الإبداع" القصيدة: "أسيرٌ في متاهات شجوني" الشاعر: د. رفعت شميس (سوريا) الناقدة:جليلة المازني (تونس) المقدمة: ان قصيدة "أسيرٌ في متاهات شجوني" للشاعر السوري د.رفعت شميس...
Discussion about this post