المسيحية في سورية ليست مجرد مكون ديني فحسب ، بل عنصر محوري في النسيج الوطني السوري،
حيث شكّلت جسورًا معرفية وثقافية وسياسية عبر آلاف السنين.
إن حضور المسيحيين يعكس قدرة المجتمع السوري على استيعاب التنوع وتوظيفه كقوة إنتاج حضاري، وليس مجرد واقع اجتماعي.
1. التنوع السوري والنسيج الاجتماعي
تاريخيًا، لم يكن التعايش بين المسيحيين والمسلمين في سورية مجرد “تعايش سطحي”، بل تفاعل معقد أسس له الدولة والمجتمع المدني. ساهم المسيحيون في تطوير البنية التعليمية والصحية والثقافية، فمدارسهم وجامعاتهم كانت منابر للحوار بين الثقافات، والمستشفيات والمراكز الخيرية شكلت شبكات دعم لكل السوريين، مسلمين ومسيحيين على حد سواء.
هذا التنوع لم يكن رفاهية اجتماعية، بل قوة للنهوض: قدرة السوريين على التشارك بين المجتمعات المختلفة ساهمت في صناعة خطاب وطني موحد، وتطوير مؤسسات قادرة على الصمود أمام الصراعات، وهو ما أثبتته مراحل التاريخ الحديث، منذ الاستقلال وحتى محاولات إعادة البناء بعد الحروب.
2. الرواية التاريخية السورية
الوجود المسيحي شكل جزءًا من ما يمكن تسميته الرواية التاريخية السورية:
اللغة والفكر: الكنائس المسيحية حافظت على اللغة الآرامية، وأثرّت في العربية الحديثة من خلال الأدب والفكر، وجعلت سورية ملتقى حضارات.
الطقوس والاحتفالات: التقاليد المسيحية أضفت أبعادًا رمزية مشتركة في الحياة الاجتماعية، انعكست في الفنون والموسيقى والتراث الشعبي.
القيم الاجتماعية: التضامن، التعليم، العمل الجمعي، والالتزام بالمؤسسات المدنية، كلها عناصر غير مادية حافظت على استمرارية المجتمع رغم الحروب والهجرات.
3. المراكز التاريخية وأدوارها
دمشق: مركز التفاعل الثقافي والفكري بين العرب واليونان والرومان، ومهد العديد من المدارس والمكتبات والكنائس التاريخية.
أنطاكية (حاليًا تركيا): أول مدينة أطلق على أتباع المسيح لقب “مسيحيين”، ومركز الفلسفة المسيحية وملتقى الحضارات الشرقية واليونانية.
معلولا وصيدنايا ووادي النصارى: حافظت على اللغة الآرامية القديمة والطقوس المسيحية، وهي أمثلة حية على استمرار الهوية المسيحية.
حلب وحمص واللاذقية: مراكز اقتصادية وتجارية أسست فيها العائلات المسيحية مؤسسات تعليمية وثقافية، لتصبح جسورًا تربط بين العالم العربي وأوروبا.
4. مساهمات المسيحيين السوريين عبر التاريخ
السياسة والبناء الوطني:
المسيحيون أسهموا في صياغة مؤسسات الدولة الحديثة، ودعم الوحدة الوطنية، وإرساء قواعد الإدارة المدنية والقانونية.
الأدب والفكر:
رجال الفكر المسيحي أسهموا في تشكيل خطاب حضاري متجدد، ونقل قيم التفاعل بين الشرق والغرب، وتعميق الهوية الثقافية السورية.
الاقتصاد والمجتمع المدني:
المسيحيون لعبوا دورًا رئيسيًا في تأسيس قطاعات التجارة والصناعة والخدمات، وربط الاقتصاد السوري بالأسواق الإقليمية والدولية. كما أسست مؤسساتهم التعليمية والخيرية شبكات دعم مجتمعي واسعة، ساعدت على الحفاظ على التماسك الاجتماعي في أوقات الأزمات.
5. الجسر بين الشرق والغرب
المسيحيون السوريون كانوا حلقة وصل حضارية:
نقلوا العلوم والفكر الأوروبي إلى الشرق العربي، وحافظوا على التراث الشرقي في نفس الوقت.
أسسوا مدارس وجامعات وصحافة ومطبوعات ربطت المجتمع السوري بالحداثة الغربية دون التفريط بالهوية الوطنية.
ساهموا في تطوير الاقتصاد الوطني عبر التجارة والصناعة، ما جعلهم جسرًا حيويًا بين السوق المحلية والأسواق العالمية.
6. التحديات الراهنة
رغم التاريخ العريق، يواجه الوجود المسيحي اليوم:
الهجرة الداخلية والخارجية التي أفرغت بعض المدن والقرى من سكانها الأصليين.
تآكل التراث المادي، خاصة الكنائس والمكتبات التاريخية.
الانكماش الديموغرافي الذي يهدد استمرارية بعض المجتمعات الصغيرة.
تراجع دور المؤسسات المسيحية في المجال العام، حيث أصبحت مراكزها أكثر محلية وأقل تأثيرًا على صعيد الدولة والمجتمع.
7. أهمية الوجود المسيحي في قدرة سورية على النهوض ومعالجة التحديات
وجود المسيحيين في سورية يمثل عنصرًا استراتيجيًا للنهوض الوطني، إذ إن قدرتهم على الدمج بين الفكر الغربي والشرق العربي، والتاريخ والحداثة، تجعل المجتمع السوري أكثر مرونة وقابلية للتجدد.
الدور في النهوض الوطني:
1. التنوع الاجتماعي كقوة: وجود المسيحيين يعكس قدرة السوريين على استيعاب الاختلاف وتحويله إلى إنتاج حضاري. المدارس والمستشفيات والجمعيات أسهمت في بناء شبكات دعم لكل السوريين، مما جعل المجتمع أكثر صمودًا أمام الصدمات والأزمات.
2. القدرة الفكرية والثقافية على الابتكار: الأدب والفكر المسيحي ساهموا في تشكيل هوية سورية متجددة، قادرة على التفاعل مع العالم الخارجي دون فقدان جذورها.
3. المرونة الاقتصادية: مساهمات المسيحيين في التجارة والصناعة جعلتهم ركائز أساسية للنهوض الاقتصادي بعد الأزمات، وتمكين الدولة من استعادة النمو واستقرار المجتمع.
معالجة التحديات:
الهجرة: تطوير برامج اقتصادية واجتماعية تشجع البقاء، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
تآكل التراث: ترميم الكنائس والأديرة والمكتبات التاريخية، وربطها بالمجتمع المدني لتصبح مراكز ثقافية وتعليمية حية.
ضعف المؤسسات المدنية: إعادة هيكلة الجمعيات والمنظمات المسيحية لتصبح فاعلة على الصعيد الاجتماعي والسياسي والثقافي.
الانكماش الديموغرافي: برامج تعليمية وثقافية تعزز الهوية الوطنية المشتركة، وتربط الشباب المسيحي بالمجتمع والموروث التاريخي.
إن حماية وتعزيز الوجود المسيحي ليس واجبًا دينيًا فقط، بل استثمار استراتيجي لقدرة سورية على النهوض. كل مشروع ترميم، دعم اقتصادي، أو برنامج تعليمي هو مساهمة مباشرة في بناء الدولة الحديثة، وتعزيز قدرة المجتمع السوري على الصمود والتجدد.
8. الخلاصة العامة
الوجود المسيحي في سورية هو عمود التنوع الوطني وجسر النهوض الحضاري:
جزء أساسي من الرواية التاريخية السورية، التي تشمل اللغة، الثقافة، القيم الاجتماعية، والفكر.
قوة مستمرة في المجتمع المدني وفي قدرة الدولة على الصمود وإعادة البناء.
مرآة لإمكانات سورية في تحويل التعددية إلى قوة، وإنتاج حضارة متجددة.
فهم هذا الوجود وتحليله بعمق، مع الاعتراف بمساهماته التاريخية والفكرية والسياسية، ليس رفاهية أكاديمية، بل شرط أساسي لبناء سورية قادرة على النهوض من أزماتها وتحقيق مستقبل مستدام لجميع أبنائها.
الإعداد : مجموعة من الباحثين في دار الشعب للنشر
الاشراف : د حسين راغب الحسين مدير الدار

















Discussion about this post