كل رحلة حقيقية تبدأ من الداخل.
قبل أن نحاول فهم العالم بعثراته وضجيجه، علينا أن نلتفت إلى تلك المساحة الصامتة في أعماقنا.
هناك، حيث لا تُسمع الأصوات، يكمن الجذر الذي تنبع منه كل فكرة، وكل شعور، وكل فعل.
الوعي بالذات ليس أن نعرف أسماء مشاعرنا أو أن نصف ما يحدث فينا بذكاء عاطفي.
الوعي أعمق من ذلك — هو أن نلمس أصل الحركة قبل أن تتحرك، أن نرى البذرة قبل أن تصير شجرة.
هو أن نفهم: من أين يجيء الغضب؟ ما الذي يجعل الحزن يطرق بابنا كل مساء؟ ولماذا نكرر ذات المواقف بأشكال مختلفة؟
في زحمة التجارب والانطباعات، ننسى أن النفس ليست ساحة صراع بين رغبات وخيبات، بل فضاء واسع يحمل كل الحكايات.
وحين نعود إلى هذا الفضاء، ندرك أن كل تجربة ليست صدفة، بل مرآة تعكس جانباً من حقيقتنا التي ما زلنا نتعلّم كيف نراها.
الوعي بالذات هو أن نجرؤ على النظر دون أقنعة.
أن نرى ما نُخفيه من خوف أو تردد أو ألم، لا بقسوة، بل بعين حانية تفهم أن كل ما فينا يستحق أن يُسمع.
حين نحتضن ضعفنا لا نُهزم، بل نتحرر.
وحين نواجه ظلنا، نكتشف أن النور لم يغب، بل كان ينتظر منا أن نلتفت إليه.
كل لحظة وعي تخلق فينا مساحة للاختيار:
أن نستجيب بدل أن ننفعل.
أن نحب بدل أن نقاوم.
أن نفهم بدل أن نحاكم.
بهذا الفهم، يتحول الغضب إلى معلّم صامت، والحزن إلى دعوة للتأمل، والخسارة إلى طريق نحو اتساع جديد.
فالعلاقة مع الذات ليست مشروعاً يُنجز، بل حوار مستمر، عميق، وصادق.
كل مرة نصغي فيها لأنفسنا، نعيد ترتيب علاقتنا بالحياة والآخرين.
عند هذه النقطة يبدأ التحوّل الحقيقي:
حين نكفّ عن الهرب من أنفسنا، ونختار الحضور في اللحظة — تلك اللحظة التي نعلن فيها بصدق أننا مستعدون أن نكون كما نحن، دون تزيين، دون خوف.
الوعي بالذات هو البوابة الكبرى لكل فهم آخر.
منه نفهم الحياة، نفهم الآخر، ونقترب من الله لا بالخوف، بل بالدهشة والطمأنينة.
وحين نعرف من نحن، نصبح قادرين على رؤية الجمال حتى في الألم، والمعنى حتى في الفقد، والسلام حتى في الفوضى.
القوة الحقيقية لا تأتي من الخارج، بل من هذا الإدراك الهادئ:
أن كل ما نبحث عنه يسكن فينا منذ البداية.
دمتم بوعي

















Discussion about this post