الرسائل المخفية عبر بساطة السردية
قراءة بقلم / محمد البنا
لنص * اللطيم *
للأديبة التونسية / حبيبة المحرزي Habiba Meherzi
%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%
اللطيم*
لم اكن لطيما ولا يتيما بل أكثر من ذاك كله. اللغة بيًنت عجزها، وكشفت أنها أهملت حالة صارت اليوم ممكنة جدا. لم أكن مستعجلا. كنت في أمن وسلام. كنت في أفضل حال لا يرعبني قرً ولا حر ولا إهمال. هي التي كانت تنتظر أن ترى وجهي. تتصوًره كلً حين.. تنابزت مع والدي. قالت له:
_أتمنًى أن يكون جميلا مثلنا..أتمنى أن يشبه أخي آدم . أشقر الشعر أزرق العينين.
يردّ عليها غاضبا:
_ماذا تعنين؟ ماذا تقصدين؟ تعيًريننا ببشرتنا القمحيًة وعيوننا السود؟ تلك صفات الرًجال الأشداء.
تبتسم ولا تجبه. هي تعلم انًه في سرًه يتمنًى أن أكون شبيها بها لانًها جميلة جدًا .
الخلاف الثاني الذي دبً بينهما كان اسمي .هي تريد أن تسمًيني على اسم أخيها الشًهيد فادي وهو يرغب في إطلاق اسم جدًه شدًاد الًذي اختفى سنة 48 ولا أحد يدري أين هو.
قالت له:
_لا تكن أنانيًا . أريد أن يذكر اسم أخي ويظلً على لساني طول العمر.
لم يجبها وفي نفسه أضمر أنًه هو من سيرسًمه في دفاتر الحالة المدنيًة وسيسمًيه على جدًه كي يبقى اسمه حيًا بينهم.
كانت تتمنًى أن أتمً تسعة أشهر يوما يوما، كي لا تضطرً لتركي في الحاضنة التي يوضع فيها الخدج ليتموا أيًامهم المتبقّية. حسبت حسابا لكلً طارئ. فهذا حملها الأول الذي انتظرته سبع سنوات. منذ الشًهر الأوًل بدأت بصنع معاطف من الصًوف وأغطية مزركشة وجوارب من “التريكو” منذ بشًرتها الطبيبة بأنها حامل وهي تعدً أصابعها تقول لأبي بعد أن تخفًض صوت التًلفاز:
_الولادة ستكون في شهر ديسمبر. سيكون البرد شديدا. لا بدً أن نشتري سخًانا كهربائيا. سخًان الغاز خطير. سيؤذيه .
يهزً رأسه موافقا. كدًست الحفًاظات والمطهّرات والقمًاطات. أمًها قالت لها :”لا بد من تقميط مولود الشتاء كي لا يلسعه البرد. ”
أمًي تخشى العين والحسد. فكًرت في إقناع والدي أن يشيع بين الأهل والأصدقاء أنًها حامل ببنت. لكنًها لم تتجرّأ على هذا الطًلب. هي تعرف أنًه صادق ولا يكذب أبدا. وقد يكون قد أعلم الجميع بأنًه ينتظر خليفة جدًه يوم اشترى خروفا أقرن ربطه في الحديقة الخلفيًة ليذبحه يوم تعود بي أمًي إلى الدار وليس غريبا أن يكون قد بدأ في استدعاء أصدقائه وأصهاره للوليمة.
دمدمت الرّاجفات ودوًت القنابل وسقطت الاسقف وتناثرت الشظايا .شعرت بضغط شديد. ولم أعد أستطيع التحرًك.وبدأت أشعر بالاختناق. تكوًرت على نفسي مستجيرا بامي. فجأة انتزعتني يد من مكاني الدافئ. لسعتي برد مباغت. ضوضاء وهرج ومرج وصراخ وعواء .
المسعف يجري بي بعد أن لفني في سترته وظل بلباسه الداخلي فقط..دسًني تحته التصقت بصدره. لا ادري كم ظللنا في الطًريق ولا أذكر إن كنا في سيارة تختضً أو أنه كان يجري بي بين الرًكام والأحجار.
سمعت الطبيب يسأله وهو يضعني على الطاولة ويده تمسح وجهي وشعري من الشوائب والأتربة الًتي علقت بي بقطعة من القماش الاخضر:
_هذا ولد الأن ؟
_نعم .
_وأين أمًه؟
_ماتت تحت الركام.
كنت ابكي والطبيب يفحصني بدقة وحولي صغار يرتعدون ويبكون وآخرون لفًوا في أكفان بيضاء. هالني عددها. من أين جاؤوا بها. كيف حصلوا على هذه الاكفان ولم يحصلوا على الخبز. أمًي ماتت جائعة. يقال أنً بلدانا عربيًة شقيقة تكفًلت بإرسال أكفان توازي عدد سكًًان غزًة. تساءلت في سرًي :”هل كنت ضمن المحسوبين المعنيًين بالاكفان؟ أم أنً كرم الأشقاء العرب يفوت الحدً فيحسبون الحساب بالفائض.كي لا يدفن أحد دون كفن. ثم سأله باستغراب:
_ولدته ثمً ماتت؟
_لا ماتت ثمً…
_ثمً ماذا؟
_رايت الجنين يتحرًك في بطنها المضغوط بالاحجار وقضبان الحديد فتشجعت واستخرجته ومعي طبيبة الإسعاف.
بكى الطبيب. رفعتي إليه فسكتً. لكنًني لم أصدًقه. ثمً قال :
_أغرب حالة ولادة سمعت عنها في حياتي وأبوه أين هو؟
_استشهد هو أيضا برصاص قنًاص عندما كان يحاول انقاذ زوجته.
_ساتبناه . سيكون ابني .
دكً المستشفى وعاشت غزة .
حبيبة المحرزي
تونس
**********
القراءة
^^^^^^
* وكما بدأت من النهاية في عدة دراسات لي لنصوص سابقة، أحدثها نصٌ للأديبة التونسية فتحية دبش؛ أبدأ أيضًا دراستي لهذا النص..
” دك المستشفي وعاشت غزة” جملة خطابية عاطفية صرفة؛ ليس لها محل في هذا النص المؤثر حد البكاء، فالنص انتهى فعليا كفكرة وحبكة ومعالجة وخاتمة أولية لو توقفت القاصة عندها لكفت، وخاتمة تالية لا بأس في إضافتها..
– الخاتمة الأولى :
” استشهد هو أيضا برصاص قنًاص عندما كان يحاول انقاذ زوجته.”
– الخاتمة الثانية :
” سأتبناه؛ سيكون ابني .”
* النص استعراض شيق وجاذب ينتمي للمدرسة الغرائبية الحديثة؛ إذ أوكلت القاصة مهمة السرد لجنين حي في رحم أمه، يصف لنا مراحل نموه من بدء الحمل لاكتمال المخاض القسري، منصتًا كجنين بين ظلمات ثلاث، لما يدور من أحاديث طرفاها الأم والأب، متضمنًا مفاتيح مهمة تبدت في اشارات سيميائية مثل ..الاخ الشهيد، الجد المختفي عام ٤٨( عام النكبة)، لتنتقل بعدها القاصة إلى هدفها المبتغى من سرديتها الا وهو مأسأة غزة الآنية، وما حدث ويحدث فيها من مجازر وإبادة جماعية، وبأسلوب يقطر مرارة وسخرية تشير للعرب ابناء جلدتهم بأصبع الاتهام ” يقال أنً بلدانا عربيًة شقيقة تكفًلت بإرسال أكفان توازي عدد سكًًان غزًة. تساءلت في سرًي :”هل كنت ضمن المحسوبين المعنيًين بالاكفان؟ أم أنً كرم الأشقاء العرب يفوت الحدً فيحسبون الحساب بالفائض.كي لا يدفن أحد دون كفن. ” يا لهم من كرماء! يرسلون أكفانًا بدلاً من طعام ودواء ومناصرة لمن يقاومون والجوع يقتلهم قبل رصاص أعدائهم!!.
* نعم ليس لطيماً ولا لقيطًا، وإنما نحن اليتماء، ونحن المتخاذلون الخانعين، وغدنا قادمٌ لا محالة، كما قيل في الأمثال # أكلنا يوم أكل الثور الأبيض #..فهل من منصت ؟!
* نص سردي حد الوجع، حد البكاء، حد الطعن الساخر الساخر لكنه مميت أيضا!
* استعراض رشيق لعادات وتقاليد جرى تدوينها عرضًا في سياق النص، فأضفت حميمية خاصة رغم حدية الحدث وجديته، فما بين التنابزات والاختلافات المتوارثة جيلا بعد جيل، وبين القماطة والكفن رحلة، حياة وموت تلازما فيها تلازمًا أبديًا طالت أم قصرت الرحلة.
* الخطاب السردي
– سبق وأشرت إليه في معرض حديثي السابق؛ كرسالة أو صرخة زاعقة في وجوهنا كأمة صارت كغثاء السيل.
ملاحظات :
سوء التنسيق بدا واضحًا في هذا النص، خاصة مع الاستخدام المفرط وغير الموفق للنقطة (.)، وكذلك الغياب شبه التام للفاصلة (،).
*********
محمد البنا / القاهرة في ٢٨ فبراير ٢٠٢٥